فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (22):

{وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)}
قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ} ومن العرب من يقول: {راء} على القلب. {قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ} يريد قوله تعالى في سورة البقرة:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] الآية. فلما رأوا الأحزاب يوم الخندق قالوا: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، قاله قتادة. وقول ثان رواه كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام ذكرت الأحزاب فقال: «أخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها- يعني على قصور الحيرة ومدائن كسرى- فأبشروا بالنصر» فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعد صادق، إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر. فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون: {هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ}. ذكره الماوردي. و{ما وَعَدَنَا} إن جعلت {ما} بمعنى الذي فالهاء محذوفة. وإن جعلتها مصدرا لم تحتج إلى عائد {وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً} قال الفراء: وما زادهم النظر إلى الأحزاب.
وقال علي بن سليمان: {رَأَ} يدل على الرؤية، وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى: ما زادهم الرؤية إلا إيمانا بالرب وتسليما للقضاء، قاله الحسن. ولو قال: ما زادوهم لجاز. ولما أشتد الامر على المسلمين وطال المقام في الخندق، قام عليه السلام على التل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي، وتوقع ما وعده الله من النصر وقال: «من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة» فلم يجبه أحد.
وقال ثانيا وثالثا فلم يجبه أحد، فنظر إلى جانبه وقال: «من هذا»؟ فقال حذيفة. فقال: «ألم تسمع كلامي منذ الليلة»؟ قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، منعني أن أجيبك الضر والقر. قال: «انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده إلي، انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني فانطلق حذيفة بسلاحه، ورفع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده يقول: يا صريخ المكروبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي فنزل جبريل وقال: إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك فخر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ركبتيه وبسط يديه وأرخى عينيه وهو يقول: شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي». وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليهم ريحا، فبشر أصحابه بذلك.
قال حذيفة: فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد، فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم نارا إلا أطفأتها ولا بناء إلا طرحته، وجعلوا يتترسون من الحصباء. وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش: النجاء النجاء! وفعل كذلك عيينة بن حصن والحارث بن عوف والأقرع ابن حابس. وتفرقت الأحزاب، وأصبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعاد إلى المدينة وبه من الشعث ما شاء الله، فجاءته فاطمة بغسول فكانت تغسل رأسه، فأتاه جبريل فقال: «وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء، ما زلت أتبعهم حتى جاوزت بهم الروحاء- ثم قال- انهض إلى بني قريظة».
وقال أبو سفيان: ما زلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الروحاء.

.تفسير الآيات (23- 24):

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)}
قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ} رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لان {صَدَقُوا} في موضع النعت. {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ} {مِنَ} في موضع رفع بالابتداء. وكذا {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} والخبر في المجرور. والنحب: النذر والعهد، تقول منه: نحبت أنحب، بالضم. قال الشاعر:
وإذا نحبت كلب على الناس إنهم ** أحق بتاج الماجد المتكرم

وقال آخر:
قد نحب المجد علينا نحبا

وقال آخر:
أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال عمي أنس بن النضر- سميت به- ولم يشهد بدرا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بعد ليرين الله ما أصنع. قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد من العام القابل، فاستقبله سعد بن مالك فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة! أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية. فقالت عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه. ونزلت هذه الآية {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} لفظ الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أصيبت يده، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوجب طلحة الجنة».
وفي الترمذي عنه: أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترءون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، فسأله الاعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أين السائل عمن قضى نحبه»؟ قال الاعرابي: أنا يا رسول الله. قال: «هذا ممن قضى نحبه» قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير.
وروى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين انصرف من أحد، مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له، ثم تلا هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ}- إلى- {تبديلا} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه».
وقيل: النحب الموت، أي مات على ما عاهد عليه، عن ابن عباس. والنحب أيضا الوقت والمدة. يقال: قضى فلان نحبه إذا مات.
وقال ذو الرمة:
عشية فر الحارثيون بعد ما ** قضى نحبه في ملتقى الخيل هوبر

والنحب أيضا الحاجة والهمة، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب، وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل، مثل حمزة وسعد بن معاذ وأنس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا}. قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولان فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل، رضي الله عنهم. {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. {وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ} في الآخرة {إِنْ شاءَ} أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة، وإن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. {إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)}
قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً} قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة: قالت {الَّذِينَ كَفَرُوا} هاهنا أبو سفيان وعيينة بن بدر، رجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة إلى نجد. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم، فكفى أمر قريظة- بالرعب. {وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا} أمره {عَزِيزاً} لا يغلب.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)}
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ} يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان وهم بنو قريظة. وقد مضى خبرهم {مِنْ صَياصِيهِمْ} أي حصونهم واحدها صيصة. قال الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت ** نساء تميم يبتدرن الصياصيا

ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة: صيصة. قال دريد بن الصمة:
فجئت إليه والرماح تنوشه ** كوقع الصياصي في النسيج الممدد

ومنه: صيصة الديك التي في رجله. وصياصي البقر قرونها، لأنها تمتنع بها. وربما كانت تركب في الرماح مكان الاسنة، ويقال: جذ الله صيصية، أي أصله {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ}
وهم الرجال. {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وهم النساء والذرية، على ما تقدم. {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها} بعد. قال يزيد ابن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها.
وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة.
وقال الحسن: هي فارس والروم.
وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، قاله محمد بن إسحاق.
الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، قاله النقاش.
وقيل: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ} مما وعدكموه {قَدِيراً} لا ترد قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال: تأسرون وتأسرون بكسر السين وضمها حكاه الفراء.

.تفسير الآيات (28- 29):

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ} قال علماؤنا: هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئا من عرض الدنيا.
وقيل: زيادة في النفقة.
وقيل: أذينه بغيره بعضهن على بعض.
وقيل: أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها. أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخير نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له.
وقيل: إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب- وقيل بالزعفران- فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير فخيرهن، فقلن اخترنا الله ورسوله.
وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق. فالله أعلم. روى البخاري ومسلم- واللفظ لمسلم- عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لاحد منهم، قال: فأذن لابي بكر فدخل، ثم جاء عمر فأستأذن فأذن له، فوجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا. قال:- فقال والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ليس عنده!! فقلن: والله لا نسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا أبدا ليس عنده. ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين. ثم نزلت عليه هذه الآية: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ}- حتى بلغ- {لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً}. قال: فبدأ بعائشة فقال: «يا عائشة، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية. قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت. قال: «لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا».
وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: «يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت ثم قال: إن الله يقول: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا}- حتى بلغ- {لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما فعلت. قال: هذا حديث حسن صحيح. قال العلماء: وأما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه.
الثانية: قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْواجِكَ} كان للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزواج، منهن من دخل بها، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها. فأولهن: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النباش الأسدي، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسمعت نادبته تقول حين مات: وا هند بن هنداه، واربيب رسول الله. ولم يتزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خديجة غيرها حتى ماتت. وكانت يوم تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين، وقيل: عشر. أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة. وهي أول امرأة أمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها. ومنهن: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديما وبايعت، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو، وأسلم أيضا، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها.
وقيل: مات بالحبشة، فلما حلت خطبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتزوجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. ومنهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت مسماة لجبير بن مطعم، فخطبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر: يا رسول الله، دعني أسلها من جبير سلا رفيقا، فتزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين. ومنهن: حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم طلقها، فأتاه جبريل فقال: «إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامه قوامة» فراجعها. قال الواقدي: وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وهي ابنة ستين سنة.
وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة. ومنهن: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليال بقين من شوال سنة أربع، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح، وكان عمر ابنها صغيرا، وتوفيت في سنة تسع وخمسين.
وقيل: سنة ثنتين وستين، والأول أصح. وصلي عليها سعيد بن زيد. وقيل أبو هريرة. وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة. ومنهن، أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان. بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وتوفيت سنة أربع وأربعين.
وقال الدارقطني: كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة على النصرانية، فزوجها النجاشي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة. ومنهن: زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب، وكان أسم أبيها برة، فقالت: يا رسول الله، بدل اسم أبي فإن البرة حقيرة، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة» ذكر هذا الحديث الدارقطني. تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة في سنة خمس من الهجرة، وتوفيت سنة عشرين، وهي بنت ثلاث وخمسين. ومنهن: زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال ابن عامر بن صعصعة الهلالية، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين، لاطعامها إياهم. تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا، ودفنت بالبقيع. ومنهن: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها، فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابتها وتزوجها، وذلك في شعبان سنة ست، وكان أسمها برة فسماها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جويرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين.
وقيل: سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين. ومنهن: صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، سباها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر واصطفاها لنفسه، وأسلمت وأعتقها، وجعل عتقها صداقها.
وفي الصحيح: أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبعة أرؤس، وماتت في سنة خمسين.
وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع. ومنهن: ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير، سباها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقها، وتزوجها في سنة ست، وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع.
وقال الواقدي: ماتت سنة ست عشرة وصلي عليها عمر. قال أبو الفرج الجوزي: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها. قلت: ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي في عداد أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومنهن: ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسرف على عشرة أميال من مكة، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها، ودفنت هنالك، وذلك في سنة إحدى وستين.
وقيل: ثلاث وستين. وقيل ثمان وستين. فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن. فأما من تزجهن ولم يدخل بهن فمنهن: الكلابية. واختلفوا في أسمها، فقيل فاطمة. وقيل عمرة. وقيل العالية. قال الزهري: تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها، وكانت تقول: أنا الشقية. تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، وتوفيت سنة ستين. ومنهن: أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية، وهي الجونية. قال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت، فطلقها.
وقال غيره: هي التي استعاذت منه.
وفي البخاري قال: تزوج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين.
وفي لفظ آخر قال أبو أسيد: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجونية، فلما دخل عليها قال: «هبي لي نفسك» فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة! فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك! فقال: «قد عذت بمعاذ» ثم خرج علينا فقال: «يا أبا أسيد، اكسها رازقيين وألحقها بأهلها». ومنهن: قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوجها إياه الأشعث، ثم أنصرف إلى حضر موت، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فردها إلى بلاده، فارتد وارتدت معه. ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا. فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيرها ولا حجبها. ولقد برأها الله منه بالارتداد. وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها. ومنهن: أم شريك الأزدية، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر ابن أبي سلمى، فطلقها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يدخل بها. وهي التي وهبت نفسها.
وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خولة بنت حكيم. ومنهن: خولة بنت الهذيل بن هبيرة، تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهلكت قبل أن تصل إليه. ومنهن: شراف بنت خليفه، أخت دحية، تزوجها ولم يدخل بها. ومنهن ليلى بنت الخطيم، أخت قيس، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها. ومنهن: عمرة بنت معاوية الكندية، تزوجها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الشعبي: تزوج امرأة من كندة فجئ بها بعد ما مات. ومنهن: ابنة جندب بن ضمرة الجندعية. قال بعضهم: تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأنكر بعضهم وجود ذلك. ومنهن: الغفارية. قال بعضهم: تزوج امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال: «الحقي بأهلك» ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. فهؤلاء اللاتي، عقد عليهن ولم يدخل بهن، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن، ومن وهبت له نفسها: فمنهن: أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها فاختة. خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إني مرأة مصبية واعتذرت إليه فعذرها.
ومنهن: ضباعة بنت عامر. ومنهن: صفية بنت بشامة بن نضلة، خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أصابها سباء، فخيرها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «إن شئت أنا وإن شئت زوجك»؟ قالت: زوجي. فأرسلها، فلعنتها بنو تميم، قاله ابن عباس. ومنهن: أم شريك. وقد تقدم ذكرها. ومنهن: ليلى بنت الخطيم، وقد تقدم ذكرها. ومنهن: خولة بنت حكم بن أمية، وهبت نفسها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرجأها، فتزوجها عثمان بن مظعون. ومنهن: جمرة بنت الحارث بن عوف المري، خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر. ومنهن: سودة القرشية، خطبها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت مصبية. فقالت: أخاف أن يضغو صبيتي عند رأسك. فحمدها ودعا لها. ومنهن: امرأة لم يذكر اسمها. قال مجاهد: خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة فقالت: أستأمر أبي. فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «قد التحفنا لحافا غيرك». فهؤلاء جميع أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان له من السراري سريتان: مارية القبطية، وريحانة، في قول قتادة.
وقال غيره: كان له أربع: مارية، وريحانة، وأخرى جميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها} {إِنْ} شرط، وجوابه {فَتَعالَيْنَ}، فعلق التخيير على شرط. وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار، لان الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير.
الرابعة: قوله تعالى: {فَتَعالَيْنَ} هو جواب الشرط، وهو فعل جماعة النساء، من قولك تعالى، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال: تعال بمعنى أقبل، وضع لمن له جلالة ورفعة، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وأما في هذا الموضع فهو على أصله، فإن الداعي هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمَتِّعْكُنَّ} قد تقدم الكلام في المتعة في البقرة. وقرئ: {أمتعكن} بضم العين. وكذا {وَأُسَرِّحْكُنَّ} بضم الحاء على الاستئناف. والسراح الجميل: هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها.
الخامسة: اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزواجه على قو لين: الأول- أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق، فاخترن البقاء، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة. ومنهن من قال: إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن، ولم يخيرهن في الطلاق، ذكره الحسن وقتادة. ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال لم يخير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءه إلا بين الدنيا والآخرة. قلت: القول الأول أصح، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت: قد خيرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفكان طلاقا! في رواية: فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق، لذلك قال: «يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» الحديث. ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة. فثبت أن الاستئمار إنما وقع في الفرقة، أو النكاح. والله أعلم.
السادسة: اختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة. ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب. وروي عن علي وزيد أيضا: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة، وهو قول الحسن البصري والليث، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. وتعلقوا بأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن. والصحيح الأول، لقول عائشة: خيرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا. أخرجه الصحيحان. قال ابن المنذر: وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق، ويدل على معنى ثالث، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ما أمره الله. وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي. وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وروي عن زيد: بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وهو قول الحسن البصري، وبه قال مالك والليث، لان الملك إنما يكون بذلك. وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء. وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية.
السابعة: ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما جميعا، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. قال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا، وهو قول جماعة من أهل المدينة. قال أبو عمر: وعلى هذا القول أكثر الفقهاء. والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك هو قول الرجل لامرأته: قد ملكتك، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو أثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها. وقالت طائفة من أهل المدينة: له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها. والأول قول مالك في المشهور.
وروى ابن خويز منداد. عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة. وبه قال أبو الجهم. قال سحنون: وعليه أكثر أصحابنا. وتحصيل مذهب مالك: أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له. وإن اختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات، إما أخذته وإما تركته، لان معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى في آية التخيير: {فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا} فمعنى التسريح البتات، قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} [البقرة: 229]. والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة، روي ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تقدم. ومن جهه المعنى أن قوله: اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها، ولا يملك منها شيئا، إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ، وكانت به بمنزل من خير بين شيئين فاختار غيرهما. وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة، لأنها تبين في الحال.
الثامنة: اختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار، فقال مرة: لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الاعراض. فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها، وعلى هذا أكثر الفقهاء.
وقال مرة: لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطي أو مباشرة، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها إلى الحاكم لتوقع أو تسقط، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها. وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها. واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140]. وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها، فصار كالعقد بينهما، فإن قبلته وإلا سقط، كالذي يقول: قد وهبت لك أو بايعتك، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا بحاله. هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبى ثور، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها وملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها. قلت: وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة: «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» رواه الصحيح، وخرجه البخاري، وصححه الترمذي. وقد تقدم في أول الباب. وهو حجة لمن قال: إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما، روي هذا عن الحسن والزهري، وقاله مالك في إحدى روايتيه. قال أبو عبيد: والذي عندنا في هذا الباب، أتباع السنة في عائشة في هذا الحديث، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الامر. قال المروزي. هذا أصح الأقاويل عندي، وقاله ابن المنذر والطحاوي.